الخميس، 8 سبتمبر 2011

رساله طبيبه إلى الكاتب بلال فضل . بقلم الدكتوره نانسى مختار

Nancy Mokhtarبقلم د
الأستاذ الفاضل/ بلال فضل...
كل عام و أنت بخير و سلامة و كل عام و قلمك حر بدون رقابة و رأيك طليق بلا أسوار و سجانة...
و أعاده الله علينا و عليك بالعزة و الكرامة....
أكتب لك اليوم أخيرا بعد طول تردد... فمنذ قرأت لك مرات و مرات و بعد أن ألفت سماع صوتك في التلفاز أصبحت أشعر أننا أصدقاء فرقتهم الأيام و جمعتهم الحيرة و الأشجان..
و لدت و عشت معظم عمري في المملكة العربية السعودية... رأيت عالما هناك يسوده ...النظام... ليس بقدر عبقرية من يقوده... بل بقدرة صغار مرؤوسيه على التنفيذ و الإتقان... ثم درست الطب في مصر... تخرجت و عملت في الصحة لأربع سنوات حتى الآن... دعني أجزم لك أنها أسوأ 4 سنوات في حياتي العملية و العلمية... لا تدريب و لا تقدير و لا تنظيم... لا توجد قوانين و إن وجدت فهي مخبأة جيدا حتى لا نصل لحق نُهبناه و لا نقدر لباطل أو فساد ردعا... شأننا شأن أهل مصر كلهم... حتى عندما واجهت الفاسدين و أثبت فسادهم نُفيت و رُقِيَ الفاسدون... فأيقنت أن "مفيش فايدة"...
أيا يكن... لم أكتب لك اليوم لأحيكي لك عني... فأنا أحكي عن جيل بأكمله... شباب الأطباء... آلاف الأطباء... و ما الذي أوصلهم إلى الكتلة الحرجة متمثلة في إضراب 10 سبتمبر!!!
دعني أحكي لك كيف يمر يومي و يوم أي طبيب في سني... كيف كان و كيف أصبح...
تخرجت من كلية الطب بالقليل من الخبرة العملية نتيجة سياسة ممنهجة لكبار الأطباء تقضي بتهميش و إضعاف الشباب كجزء من سياسة الدولة كلها... و استلمت التكليف أو بالأصح سُلِمته... تماما كما لو وضعت أعمى وسط طريق مزدحم بالعربات و تركته... سنتين كاملتين في الريف من الكشف على المرضى و التشخيص و وصف العلاج بدون تدريب حقيقي و في رقابنا أرواح الناس... و كأن الطبيب وُلد طبيبا فيتوقع منه الجميع أن يعرف ماذا يفعل و كيف يفعله؟؟؟؟ سنتين كاملتين من "طبيب التكليف نوبتجي في الوحدة الصحية 24 ساعة يوميا و طول الشهر ما عدا خميس و جمعة كل أسبوعين"!!!!!!!! سنتين كاملتين من التحكمات من مديرية و إدارة صحية و مجلس مدينة و وحدة محلية... سنتين كاملتين بإجمالي راتب مع الحوافز و البدلات 450 جنيه شهريا... ما يعادل 15 جنيه عن اليوم و الليلة (24 ساعة) (و وزير الصحة المبجل قرر زيادة الخدمة الصحية بالصعيد بتكليف جميع الأطباء حديثي التخرج بالصعيد و المناطق النائية)!!!!!!!!!
و أجدني أستبشر خيرا إذ سُلِمت النيابة... لكن المصيبة اعظم... فالأطباء الكبار مجددا منصرفين إلى عياداتهم و شؤونهم و لا يبالون بنا أو تعليمنا ما قد يسعف مصابا أو ينقذ مريضا... و إلى جانب الكشف على المرضى و التشخيص و وصف العلاج بدون أي تعليم حقيقي أجدني مسؤولة عن إسعاف المصابين في الحوادث و المشاجرات و عن التعامل الأولي مع الحالات الحرجة التي تصل إلى غرف الطوارئ بالمستشفيات بأقل قدر ممكن من الخبرة و الإمكانيات (يتهم الناس الأطباء بالأهمال و لكنه في الحقيقة إهمال الوزارة و المسؤلين في تدريبنا و تعليمنا و إمدادنا بالأدوات و الأجهزة و المستلزمات الطبية و الأدوية)...
حين حاولت أن أُنتدب جزئيا إلى أي مستشفى جامعي أو تعليمي أو تخصصي لكي أتعلم صدمني كم البيوقراطية و المحسوبية في وزارة الصحة... فكل هذه الأماكن محجوزة لأبناء الوسايط... حتى عندما حاولت أن أقتطع من وقتي و مالي الخاصين بالتدرب كطبيب زائر في إحدى هذه المستشفيات أعجزني مدير مستشفاي... هو رجل لا يتق الله فينا و في المرضى... يعبد القرش و المليم... و يوجد مثله في كل مستشفى أو وحدة أو إدارة... يتعامل معنا شباب الأطباء كأنفار يلزمنا بالحضور يوميا إلى جانب كل نوبتجياتنا (24 ساعة مرتين أسبوعيا) و الانتظار حتى موعد الانصراف لمجرد التوقيع في دفتر الحضور و الإنصراف مع أن النوبتجي هو الملزم بعمل القسم و الطوارئ في نوبتجيته و بالتالي باقي زملائه لا يترتب عليه التزامات في مثل هذا اليوم و حين نحاول التفاوض معه ليترك لنا فرصة كي نتعلم في أي مكان آخر في الأيام التي لا يوجد لنا فيها التزامات في المستشفى يرد علينا بأن الطبيب المقيم يجب أن يقيم في المستشفى 24 ساعة يوميا و طول الشهر ما عدا خميس و جمعة كل أسبوعين!!!!!! و أنه تفضلا منه لا يلزمنا حرفيا بهذا!!!!!!! كل هذا بإجمالي مرتب و حوافز و بدلات لا يصل إلى 700 جنيه في الشهر و بواقع 40 جنيه عن النوبتجية 24 ساعة و بحد أقصى 12 نوبتجية في الشهر...
و كنا قانعين بهذا القليل ماديا و علميا و أدبيا لأن دعوة المريض لنا بالستر و الحفظ أغلى من كنوز الدنيا!!!!!! حتى أتى اليوم الذي ما عدنا نُقابل فيه بالدعوات بل باللكمات و أشنع الوصوف و اللعنات...
صب الناس كبتهم و إحباطاتهم و قلة حيلتهم و عجزهم طوال ثلاثين سنة علينا نحن بدعوى إهمالنا و تقصيرنا... و تطاول الشعب الذي حرصنا عليه سنينا بالضرب و الطعن و الإهانة... ثم تخرج الصحف يوما بعد يوم بمقال عن نسبة الوفيات العالية بهذه المستشفى أو بقذارة تلك المستشفى أو المعاملة السيئة من قبل الأطباء و طاقم التمريض في مستشفى أخرى... لتكون كالزيت يُصب فوق النار... و يهيج العامة على شباب الأطباء أكثر و أكثر... و يهيج شباب الأطباء على العامة أكثر و أكثر...

سيدي... حين تخرجت من كلية الطب كنت متفائلة بشوشة أبتسم في وجه المريض و أستمع إليه بانصات... لكني اليوم لم أعد أبتسم و لا أستمع... لقد ضقت ذرعا بشكوى الناس لي و لا أحد يسمع شكواي... لقد شُغلت بسوء حالي و ضيق ذات يدي... شُغلت بنفسي لا آمن عليها في مكان عملي الملائكي من بطش الناس و أبناء بلدي... و أصبح همي هو أن أخرج من هذه البلد إلى أرض الله الواسعة... فمن يستطيع أن يعيش اليوم ب 30 أو حتى 40 جنيها في اليوم... و أي معيشة... و الناس تحاسبك على مظهرك و مركبك و مأكلك لأنك طبيب!!! من يستطيع أن يعيش و يعمل مهددا كل يوم ببطش الجهماء و الجهلاء؟؟؟؟

لقد ضقت ذرعا بالطب...
ضقت ذرعا بالمرض و المرضى...
لم أعد أحرص على البشر كما كنت... فهم ما عادوا يقدروني كما كانوا!!!
و حين أجبت على سؤال الاستفتاء: كيف تفضل أن يكون إضراب 10 سبتمبر كلي أم جزئي؟؟؟
كانت إجابتي... كلي... و على نفسها جنت براقش
منقول ... بقلم د نانسى مختار.....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق